“رصيف الغرباء” انطلق هشاً ثم بات مقصداً ينتظره المشاهدون
نص نخبوي ونخبة ممثلين لكل منهم مكانه ومكانته
هذا الرصيف عاد ليشغلنا ويشعل فينا جذوة الاشتياق لشخصيات تحكي عن الصداقة والوفاء والحب والتضحية بحبكة ترضي فضولنا ونصرتنا للحق. “رصيف الغرباء” للكاتب طوني شمعون وإخراج وإنتاج ايلي معلوف هو رصيف الحنين نحو ذكريات وطن مرّ من هناك يحكي قصص البكوات والباشوات وعلاقات الحب والخيانة والغدر.
هذا الرصيف الذي يمتد لحلقات قد تصل 140، مرّ بقنوط وبرودة وركاكة وعاد وشد بلاطه وأقدام ناسه وبدأوا يحيكون خطواتهم بالكثير من التشويق والإثارة. سره يكمن في الحوارات التي أتت أكبر من حوار في مسلسل تلفزيوني أنها تقترب اكثر من الادب والفلسفة والعمق، الذي من الصعب هضمه في جملة سريعة وسط تعابير ممثلين يحكون هواجسهم وأعماقهم .حوار فيه الكثير من التعقيد الذي يستحق أن يكون حبراً على ورق نتمعن فيه لوقت طويل. هذه قد تعتبر سقطة وسط عالم سريع يعترف باللحظة الرشيقة. لكن في عالم الوعي فهو حوار نستحق سماعه في جو البلادة والتفاهة والرخص. حوار كتبه شمعون بدفء الروح وجلالة الكلمة وطغيان الفكر وحكمة التجارب. منحة كريمة لا تتكرر في عالم الشاشة الصغيرة.
إذن لهذا الرصيف نص غالٍ وعالٍ وعندما تكون الكلمة طاغية والموقف حاسم تصبح حركة الجسد أقل والصوت يذهب في متاهات التعبير اكثر، وكأن فعلاً الكلمة أشد وطأة من حد السيف ،فما بالنا إن أردنا أن نقارنها بحركة الجسد والصوت. . فمع هذا النص العتيق المخمر يصعب على الممثل أن يستنفر طاقاته العفوية، الحكماء يقولون كلمتهم مشدودة الوتر بأجساد صلبة والرعناء يقولونها بطوفان أرعن.
“رصيف الغرباء” حكاية تسكن الوجدان بكل شخوصها وحبكتها التي ظهرت معقودة كلجام تشدنا نحو معرفة مصير الحاقد الظالم القاتل وكيف سينقلب السحر على الساحر. كلما اقترب هذا الرصيف من نهايته أمعنا حباً في أبطاله وفي أحداثه. طوني شمعون الذي أسهب في كتابة حقيقة قد لا نراها الا على الشاشة وهي نصرة الحق ولو بعد الحين وانتصار العدالة على الحثالة. عمل متطرف بالرومانسية حيث الحب يصبح تضحية والصداقة تفانٍ والعطاء سمة وبذل الذات واجب. قيم نفتقدها، شخصيات تتماهى في الخير لدرجة يمكن أن نقول عنها حكي شاشات. لكن نحن نحتاج الى هذه الجرعة الايجابية وسط هذا السواد الممعن فينا وسط هذا الخراب الذي يحيطنا. أنه رصيف الهروب نحو الخير والحلم . وهذا سر شعبيته وسر انتظاره ،لان هناك من يقول دواخلنا ومن ينسج يقيناً افتقدناه وخيراً بات بعيداً.
هذا العمل الطويل ينبأ عن شخصيات تلفزيونية سيكون لها مكانة بالرغم من برودة ما تلف أداءها. لن نحكي عن الكبار فهم خارج الكلام لانهم باتوا أرثنا وذاكرتنا ومعلمينا أمثال كارمن لبس وفادي ابراهيم بيار شمعون عمار شلق ووداد جبور . علي منيمنة الذي أتى بما أوكل له وأضاف وأبدع حتى كرهنا دوره وأسمه واستطاع أن يجسد شخصية كمال بكل نجاسة وأبدع في حركة وجهه ونظراته ومشيته وأعطى الشخصية بعداً احترافياً، وأكثر الظن إنه اكتشف نفسه وإمكانياته من خلال هذا العمل الذي قد يغير مسار حياته المهنية.
رهف عبدالله بطلة أنيقة ملأت مكانها بحرفية ،رفعة رأسها خدمها وجهها النضر وجمالها الطبيعي النادر وحسها العالي وصوتها الرخيم. فكانت العاشقة الصادقة والبريئة وكانت الابنة المفجوعة الحزينة وكانت السيدة الناقمة والمنتقمة وأبدعت في كل فصول ادوارها حباً وسخطاً ونقمة وشجاعة. ولم تسقط مرة بل ارتقت في كل مرة. شخصية قادمة الى عالم الدراما وفي جعبتها وجه يمكن أن يكتب له كل الادوار فهو وجه نقي بعصب مشدود وقامة حاضرة وصوت يمتشق النبرة صياغة جذلة.
ميزة “رصيف الغرباء” أن الكل بطل خاصة في اقتراب نهايته بدأت خيوطه تتعقد وتتشابك لتظهر جمالية العمل أكثر ويختلط الجميع في حبكة الحكاية والكل أثر ومؤثر لا يوجد شخصية هزيلة بل الجميع يتضافر في ازدحام الاحداث ويحفر مكانته رسوخاً كهند خضرا وحسين فنيش وإيلي شالوحي ونور صعب وسواهم.
رصيف لوهلة بدا مملاً ثم غاص في الحركة وتوج ناسه وتاريخه وكل من مرّ عليه وبات مقصداً ينتظره المشاهد بعد نشرة الاخبار على محطة lbc.